بقلم: ٲراس سعید
في الأول من مايو 2023، أعلن (جيفري هينتون) العالم الكبير وأبو الذكاء الاصطناعي والذكاء العميق، الذي يشغل حاليًا كل حضارة البشرية ولا يوجد أي موضوع آخر يستحق الاهتمام والنقاش، سحب يده من عمله واستقال من شركة جوجل وصرح في مقابلة مع صحيفة (واشنطن بوست) قائلاً: "إنه نادم على تكريس عمره لشيء يجب أن يقف الآن ضده." يعيدنا هذا التصريح إلى مائتي عام مضت، قبل عام 1818 لم يكن هناك أي نص أدبي مشهور مرتبط بما نسميه الآن (الخيال العلمي)، لكن الكاتبة البريطانية (ماري شيلي) ظهرت عندما نشرت أول روايتها الشهيرة بعنوان (فرانكشتاين) وأدهشت العالم وحافظت على اسمها حيًا على المسرح الأدبي العالمي لمئات السنين. في رواية فرانكشتاين، يخلق عالم كائنًا من مواد غير حية وميتة، وبعد إنشائه يكتسب وجودًا مستقلًا ولم يعد يخضع لسلطة وسيطرة خالقه ويكتسب كيانًا مستقلًا. هذه الصورة الأسطورية مشابهة لقصة الخلق عندما يخلق الله كائنًا حيًا من الطين مثل آدم، ثم يأكل من شجرة التفاح في الجنة ويتمرد عليها. إذا تعمقنا في تصريح (جيفري هينتون)، يمكننا تشبيه وجود الذكاء الاصطناعي والروبوتات بكائن (فرانكشتاين) لـ (ماري شيلي)، كشيء خرج عن سيطرة مبدعه واكتسب كيانًا مستقلًا ومن المحتمل أن ينفلت يومًا ما كوحش عملاق ولا يمكن السيطرة عليه من قبل صاحبه ويمشي على عظامه وأعصابه. فكرة رواية (ماري شيلي) هي صورة لوحش خلقه الإنسان بنفسه ولم يعد يمكن السيطرة عليه. إنها قوة خلقها الإنسان ولم تعد تخضع له أو يمكن التحكم بها. هذه صورة لنظام أو نمط حياة لم يعد لدينا السيطرة عليه ويعيش بشكل مستقل عنا وسلطة الإنسان عليه صفر. لذلك لا غرابة أن يقول جد الذكاء الاصطناعي: "إنه نادم على تكريس عمره لشيء يجب أن يقف الآن ضده." رغم أن فكرة قصة (فرانكشتاين) هي مجرد خيال علمي وافتراض للعالم المستقبلي للإنسان. وفي المقابل، هناك قصة (الدوائر المهملة) لـ (بورخيس)، حيث يروي في هذه القصة عملية خلق إنسان شعرة بشعرة لشخص آخر، (إنسان يخلق إنسانًا آخر خلية بخلية). المخلوق الخيالي هو شخص يقوم ويمشي ويتحرك ولديه جميع صفات الإنسان العادي، لكن على عكس كائن فرانكشتاين، يظل وجوده ووجوده مرتبطًا دائمًا بقدرة الخيال للشخص الذي خلقه ولا يمكنه الفرار من سيطرته. عندما يقرأ الإنسان هذه القصة، يتساءل: هل الذكاء الاصطناعي والروبوتات دائمًا مثل قصة بورخيس مرتبطة بخيالنا ولا يمكنها تحرير نفسها منا واكتساب كيان مستقل؟ وإذا كان ذلك مستحيلًا، كيف نتعامل مع هذه الآلة؟ في الماضي القريب، قال (ساندر بيتشاي)، الرئيس التنفيذي لشركة (جوجل)، في تصريح صحفي: "العالم لا يدار بالمهندسين والتقنيين، بل يحتاج إلى فلاسفة ومفكرين وإلى أخلاق الإنسانية". لا أحد يشك أن المعرفة والقوة المتاحة للبشرية اليوم أكبر بكثير مما كانت عليه في العصور السابقة، لكن لا توجد أي ضمانات بأننا نفهم أنفسنا وأدوارنا في الكون بشكل أفضل. لماذا يسهل علينا جمع المزيد من المعلومات والقوة، لكن من الصعب أن نصبح أكثر ذكاءً وتتفوق الآلات علينا؟ في ظل مخاطر الآلات والتقنية المماثلة لظهور عصر الذكاء الاصطناعي، يقول المؤرخ الإسرائيلي الكبير (يوفال نوح هراري) في أحدث كتابه بعنوان: "Nexus: A Brief History of Information Networks from the Stone Age to AI": سلفنا كانوا يصلون دائمًا إلى استنتاج أن لدينا ضعفًا قاتلًا يجعلنا نكتسب قوى لا نستطيع التحكم بها. يستشهد بمثالين أسطوريين، أولهما: أسطورة (فايثون) التي تتحدث عن صبي يعرف أنه ابن إله الشمس (هيليوس) وللتأكيد على أصله الإلهي، يطلب من أبيه السماح له بقيادة عربة الشمس. يحذر هيليوس ابنه أن أي إنسان فانٍ لا يستطيع التحكم في الخيول السماوية التي تسحب العربة. لكن فايثون مصر على ذلك وأخيرًا يقتنع والده. عندما يرتقي فايثون إلى السماء، يفقد السيطرة على العربات. تنحرف الشمس عن مسارها وتحرق جميع النباتات وتقتل العديد من الكائنات الحية وتهدد بحرق الأرض. هنا يتدخل زيوس ويرمي برقًا نحو العربة، ويسقط الإنسان المتغطرس كنجم لامع من السماء، وتفرض الآلهة سلطتها على السماء وتنقذ العالم. بعد ألفي عام، عندما بدأت الثورة الصناعية بالخطوات الأولى واستبدال البشر بالآلات، كتب (يوهان فولفغانغ فون غوته) قصيدة تحذيرية مشابهة بعنوان (الساحر المتدرب). قصيدة غوته (التي قد نعرفها في إصدار والت ديزني بميكي ماوس) تتحدث عن ساحر عجوز يترك المتدرب الشاب بمفرده في المصنع ويطلب منه إنجاز بعض المهام في غيابه. من بينها، يجب على الشاب أن يجلب الماء من النهر، لكن الشاب وليجعل عمله أسهل يأمر عصا سحرية بجلب الماء. ولأن السحر لا يعرف كيف يوقف العصا، تستمر العصا في جلب المزيد والمزيد من الماء، حتى تصبح تهديدًا بحدوث فيضان داخل المصنع. في اليأس، يمسك الشاب فأسًا ويقطع العصا إلى نصفين، لكن الآن عصوان تجلبان المزيد من الماء. أخيرًا عندما يعود الساحر، يطلب الشاب المساعدة (سيدي المشكلة كبيرة! الأرواح التي استدعيتها، لا أستطيع الآن إخراجها). يضع الساحر حدًا فورًا للسحر ويأمر الفيضان بالتوقف. الدرس واضح للمتدرب والبشرية: (لا تستدعِ أبدًا قوى لا تستطيع التحكم بها). هذان المثلان (فايثون والساحر المتدرب) اللذان يستشهد بهما (يوفال نوح هراري) لا يعنيان سوى أننا كبشر تغاضينا بوضوح عن سماع التحذيرات من مخاطر هذه الآلة. لقد أخرج الإنسان مناخ كوكبه من توازنه وأحضر مليارات العصي السحرية والدرونز والدردشة بوت والأرواح الخوارزمية الأخرى التي يمكن أن تخرج عن السيطرة وتطلق فيضانًا من النتائج غير المرغوبة وتكتسب وجودًا مستقلًا كائن فرانكشتاين وتمشي على عظام وأعصاب الإنسان.